يمثّل النقب القسم الجنوبي من فلسطين، ويشكّل حيزًا مثلثًا يمتد إلى الجنوب من الخليل. المثلث الصحراوي متساوي الساقين، قاعدته تمتد بطول 110 كم ما بين رفح على البحر المتوسط، وجبل اصدم على البحر الميت، ورأسه عند منطقة أم الرشراش. ويحد ضلعه الشرقي المملكة الأردنية بطول نحو 165 كم، أمّا ضلعه الغربي فيحده كل من قطاع غزة بطول 45 كم، ومصر بطول 220 كم، ويقع رأس النقب على خليج العقبة حيث مدينة أم الرشراش (إيلات)، وتبلغ 12800 كم2، أي حوالي 58% من مساحة الكيان الصهيوني حاليًا، وأكثر من 47% من مساحة فلسطين التاريخية. للنقب موقع جيوسياسي مهم، ومن هنا بدأت الأطماع الصهيونية في هذه البقعة من الأرض الفلسطينية، وتمتد جذور السيطرة الاحتلالية على النقب إلى عام 1948. مراكَمة على الاستعمار البيئي لم تبدأ الصهيونيّة في اشتغالها بصحراء النقب من الصفر، إنما راكمت منذ ما بعد قيام الدولة عام 1948، على تراث استعماريّ مارَسَتْه الدول الأوروبيّة الاستعماريّة، منذ نهايات القرن التاسع عشر، مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا في البيئات الصحراويّة في إفريقيا وتحديدًا في شمالها. وقد أشار وايزمان [ إيال وايزمان، “حدّ الصحراء، خطّ المواجهة” (بالعبريّة لفظًا: ’ساف همِدبار كاف هعيموت’)] إلى تزامُن الهجرة اليهوديّة من أوروبا إلى فلسطين والاهتمام بصحراء النقب، مع الاستعمار الإيطالي على ليبيا سنة 1910، واستمرار الإيطاليّين في السيطرة على الصحراء الليبيّة مع وصول الفاشيّين إلى سدّة الحُكْم سنة 1922. فقد قارن وايزمان بين التصوُّريْن الاستعمارييْن، الإيطالي في ليبيا والصهيوني في النقب، تجاه البيئتين الصحراويتين وسكّانهما البدو فيهما. إذ استفاد الصهاينة من إرث الممارسات الفاشيّة الإيطاليّة في سياسة التدخُّل البيئي، على مستوى التحريج والإنبات، ومشاريع منها حفر آبار ارتوازيّة، ومدّ خطوط ريٍّ قُطريّة، لغرض إعادة تشكيل عَتَبة الصحراء المتاخِمة للمُدن الليبيّة وفق أجندة استعماريّة. والأهمّ، كان عنف الإيطاليين تجاه بدو الصحراء الليبيّة، الذي وصل إلى حدِّ قصفهم بغاز الخردل، من أجل دفعهم إلى عُمق الصحراء، وإبعادهم عن حدّها المتاخِم للمناطق الحَضريّة! بالنسبة إلى وايزمان، لم يتقاطَع عنف الصهاينة مع العنف الفاشي الإيطالي على مستوى الممارسات وسياسات التدخُّل البيئي فقط، إنما على مستوى المِخيال لكلا الاستعماريْن. ففي اللحظة التي كانت تسعى الصهيونيّة إلى إحياء “تراث الأجداد” في صحراء النقب وفلسطين عمومًا، كان الإيطاليون يعملون على إعادة بعث التراث الحضاري الروماني، الذي شيَّده الرومان من غابِر الزمان في شمال إفريقيا.([1]) “إذا لم تصمد الصحراء فلن تصمد تل أبيب”في المداخلة التي قدّمها بن غوريون خلال اجتماع اللجنة الأمنيّة الصهيونية، بتاريخ 3 شباط/ فبراير 1948، اعتبر فيها منطقة النقب بمثابة الامتحان القومي للحركة الصهيونية، من ناحية قدرتها على الاستيطان وفرض سيادتها. فـ”للنقب أهمية لا تقتصر على مستوى الاستيطان الزراعي فقط؛ بل أيضًا على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي من الدرجة الأولى، فها هو خليج إيلات والأرض التي وراءه هي وادي عربة”. حدّد بن غوريون هدفه الرئيسي بالقول: “لا أستطيع أن أحتمل نصيحة عدم الدفاع عن الصحراء، كما يجب الدفاع عن تل أبيب. إذا لم تصمد الصحراء فلن تصمد تل أبيب. ربما تكون مهمّة السيطرة على النقب أكثر عمليّة وضروريّة من سيطرتنا على تل أبيب”. وأيضاً، فإنّ “أهميّة وتاريخيّة النقب أكثر عمقًا من تل أبيب”.([2]) فقد وصف بن غوريون، أهمية النقب في الفكر الاستعماري الصهيوني، بقوله: “إنني أعتقد أن كيان إسرائيل يتوقف على النقب، ولا كيان لها بدونه”.([3]) أثناء حرب 1948 وبعد انتهائها مباشرة، وإثر الانتداب البريطاني ثم إعلان إسرائيل للاستقلال، كان غالبية سكان النقب البدو قد تم طردهم أو هم فروا إلى مناطق مجاورة في الأردن ومصر والضفة الغربية وغزة. ولم يبق من سكان البدو في النقب، البالغ عددهم 65 ألفًا إلى 95 ألفًا قبل عام 1948 إلا 11 ألفاً فقط، ويمثّلون 10 قبائل فقط من بين 95 قبيلة كانت متواجدة في النقب. وقال المسؤولون الإسرائيليون في ذلك الحين بأنه يجب إخلاء البدو مباشرة من النقب (بدعم من يوسف فيتز، رئيس الصندوق اليهودي الوطني لتقسيم الأراضي، ووزير الخارجية موشيه شاريت) أو أن يبقى الموالون للدولة لكن يتم تجميعهم في مناطق محدودة شرقي بئر السبع (وهو موقف دعمه يغال آلون، متصرف اللواء الجنوبي والحاكم العسكري للنقب). كما جاء في خطة آلون الغرض من نقل البدو إلى هذه المنطقة المحدودة، أي وهو توفير الأراضي اللازمة لاستيطان اليهود ولبناء قواعد للجيش الإسرائيلي، وإبعاد البدو عن طرق النقب الرئيسية. ورجحت كفة منهج آلون، وعلى مدى السنوات الأربع التالية أجبرت السلطات 11 من القبائل الـ١٩ المتبقية على النزوح من الأراضي إلى منطقة تقع بين بئر السبع وحدود “إسرائيل” مع غزة، وهذا ضمن منطقة محدودة معروفة بالسياج (والعشائر الثمان الأخرى تسكن أراضي تقع داخل السياج بالفعل). وقالت السلطات العسكرية لهؤلاء البدو أن الانتقال مؤقت وأنهم سيُسمح لهم بالعودة إلى أراضي الأجداد خلال فترات تتراوح بين أسبوعين إلى ستة أشهر. وحتى الآن لم يتم السماح لأي منهم بالعودة. ([4]) كتب بن غوريون في يومياته، بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 1949، عندما زار النقب: “من إيلات [العقبة] عبر فضاءات وادي عربة… من عين حصب… إلى عين وهبه… علينا أن نعطي أسماء عبرية لهذه الأماكن، أسماء تاريخية، وإن لم توجد فلتكن أسماء جديدة”.([5]) في تموز/ يوليو 1949، اقترح بن غوريون تشكيل لجنة يوكل لها مهمة محددة جغرافيًا في منطقة النقب فقط، أي النصف الجنوبي من أرض فلسطين، من أجل “تحديد أسماء عبرية للأماكن كافة، الجبال والوديان والينابيع، والطرق وما شابه ذلك في منطقة النقب”. ([6]) في هذا السياق، يفيد ميرون بنفنستي: “في تموز/ يوليو 1949، اجتمعت مجموعة من تسعة علماء، كل منهم معروف في مجال تخصصه، علم رسم الخرائط والآثار والجغرافياوالتاريخ، في مكتب رئيس الوزراء في تل أبيب. وكانت لهم جميعهم علاقة بجمعية (استكشافإسرائيل Isreal Exploration Society). وقامت هذه الجمعية بجمع أكثر الخبراء احترامًا في مجالات علمهم المتعلقة بأرض إسرائيل، وأطلقت مشاريع بحثية ونشرت أبحاثهم ونظمت المؤتمرات التي جذبت مئات من المشاركين المتحمسين”.([7]) وكان هدفها المعلن: “تنمية وتطوير دراسة الأرض وتاريخها، وتاريخها القديم، وإبراز نواحي الاستيطان والترابط الاجتماعي التاريخي بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل. وسعى الباحثون في جمعية استكشاف إسرائيل إلى توفير التوثيق الملموس لاستمرارية الخيط التاريخي الذي لم ينقطع منذ زمن يشوع بن نون حتى أيام الفاتحين للنقب في جيلنا”.([8]) وقد تم تأليف اللجنة من هؤلاء التسعة باسم “لجنة تحديد أسماء الأماكن في منطقة النقب”، وكانت مهمة اللجنة الجديدة هي “تعيين أسماء عبرية لجميع الأماكن (الجبال والوديان والينابيع والطرق، إلخ) في منطقة النقب”.([9]) هنا، يؤكد بنفنستي، أن المهمة لم تكن مجرد تمرين مهني أو عمل بحثي، بل “كانت عمل إثبات للملكية: لقد طلب إليهم أن يضعوا مسودة صك ملكية لأكثر من نصف أرض إسرائيل”.([10]) فقد جاء في الرسالة التي أرسلها رئيس الوزراء إلى رئيس اللجنة، والتي كتب فيها يقول: “إننا مجبرون على إزاحة الأسماء العربية لأسباب تتعلق بالدولة. إننا ببساطة لا نعترف بحق العرب السياسي بامتلاك الأرض، ولا نعترف أيضًا بحق امتلاكهم الروحاني ولا بأسمائهم”.([11]) مع انتهاء عمل اللجنة في عام 1951 ، كانت اللجنة قد حددت 533 اسمًا عبريًا جديدًا، استبدلت الأسماء العربية الجغرافية للمكان في النقب. أكثر من نصف الأسماء الجديدة استندتعلى أسماء عربية، من خلال ترجمة 175 اسمًا، أو تحديد اسم مشابه للعربية في 150 حالة، أو من خلال إبقاء الاسم العربي على حاله، وكان ذلك في ثماني حالات فقط، أمّا باقي الأسماء فكانت أسماء تاريخية ووصل عددها إلى 120 اسمًا، كما تم تحديد 50 اسمًا توراتيًا، واستحداث 30 اسمًا جديدًا. إلى جانب لجنة المسميات في النقب، أقامت الدولة مركز الخرائط الإسرائيلي، والذي كان يهدف إلى تحويل الخرائط إلى العبرية بكل ما تحمل من أسماء عبرية جديدة للحيز الفلسطيني.([12]) يذهب كل من ماعوز (Maoz Azaryahu) وأرنون (Arnon Golan) إلى أن “اللجنة قد توصلت بعد ثمانية أشهر من تشكيلها إلى تحديد نحو 560 تسمية عبرية في منطقة تقارب نصف مساحة الأراضي ذات السيادة الإسرائيلية وتمتد من إيلات في الجنوب وخط غزة ــ عين جدي في الشمال، وفي آب 1950 طبعت خارطة عبرية للنقب بمقياس 1: 250000، ونشرت قائمة الأسماء تلك في كتاب الحكومة السنوي في العام 1951، الأمر الذي أكد على وضعها الرسمي وجعلها متاحة للجمهور. وقد علق لاحقًا رئيس الهيئة مستذكرًا بأن قائمة الأسماء قدمت (باكورة جهد الهيئة، أي : خارطة عبرية للنقب، مهذبة من الأسماء الأجنبية، حيث كل موقع فيها يمتلك اسمًا عبريًا)”. ([13]) قررت اللجنة أيضًا طريقة اختيار الأسماء من خلال تحديد مجموعة من خمس أولويات: بعد مهمّة عَبْرَنَة الأسماء والمواقع، حوّلت الدولة العبريّة خلال خمسينيّات القرن الماضي، مناطق شمال النقب التي اقتُلع أهلها منها، إلى مستوطنات يهوديّة زراعيّة، ومعسكرات للجيش. وفي الستينيّات، بدأت “إسرائيل” ببناء ما عُرف بـ”بلدات التطوير”، من بينها بلدات مثل: عَراد، ديمونة، يروحم، ومتسبيه ريمون. كان معظم المستوطنين في هذه البلدات، هم يهود مهاجرون من شمال إفريقيا، وفق تصوُّر لدى النُّخبة الصهيونيّة – الأشكنازيّة، تتمثّل بأنّ اليهود القادمين من المغرب وتونس وليببا، يمكنهم التأقلُم مع البيئة الصحراويّة في النقب، بشكل أسرع من باقي المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا. ([15]) هكذا، تم إنتاج هوية ثقافية يهودية “مُتخيلة”، للاستيلاء على أراضي النقب، فعملية محو الأسماء العربية عن الخارطة، واستبدالها بأسماء “عبرية”، هي عملية سلب، تجعل السكان الأصلانيين غير مرئيين. عقيدة النقب الميت يتبع الكيان الصهيوني نهج “الأرض المباحة” في التعامل مع الحيز الأصلاني لبدو النقب، وتمثل الأرض المباحة “الأراضي التي لا يملكها أحد وتعد خلوًا من السيادة أو الملكية أو حقوق الحيازة طويلة الأمد. ويشير هذا المفهوم في مدلوله إلى الممارسات التي وظفتها القوى الأوروبية والمستوطنون الأوروبيون في تجريد السكان الأصلانيين من أملاكهم ونزعها منهم، واستغلال مواردهم الطبيعية والاستيطان في أرضهم… أن مبدأ الأرض المباحة لا ينحصر في كونه مفهومًا قانونيًا. فهو يمثل إطارًا ذهنيًا يرسم صورة نمطية للمجتمعات الاستيطانية والأنظمة الاستعمارية التي كانت ضالعة في التوسع الاستعماري”.([16]) هكذا، لا يعترف الكيان الصهيوني بحق البدو في الملكية على أراضيهم، استنادًا إلى “مرسوم الأراضي العثماني من العام 1858، وإلى مرسوم الأراضي لحكومة الانتداب البريطاني من العام 1921. تطرق المرسوم العثماني لأراضي الموات، أراضٍ غير مستصلحة، والتي تقع على بعد 1.5 ميل من البلدات الثابتة، حيث يستطيع كلّ من يستصلحها تسجيلها باسمه. لم تكن في حين صدور هذا المرسوم أي بلدة ثابتة في النقب، الأمر الذي حول جميع الأراضي إلى أراضٍ موات. لم يسجلّ البدو أراضيهم لأسباب عدة. طلب مرسوم الانتداب البريطاني، الذي استند إلى المرسوم العثماني، كل من يفلح أرضًا من الموات أن يسجلها باسمه. ومرة أخرى لم يقم البدو بتسجيل أراضيهم لأسباب عدة ومنها صعوبة الوصول إلى المكاتب الرسمية، والتخوف من دفع الضرائب وما إلى ذلك. أطلق البريطانيون حملة لتسجيل الأراضي، وقد باشروا الحملة انطلاقًا من الشمال وساروا باتجاه الجنوب، لكن الوقت لم يسعفهم بالوصول إلى النقب قبل مغادرتهم البلاد في 1948 وقد قررت إسرائيل، إستنادًا إلى هاتينالسابقتين، أن أراضي البدو هي أراضي دولة”.([17]) بينما التقاليد المتعارَف عليها تاريخيًّا، لعلاقة البدو بأرضهم في النقب، والتي قامت على الرعي والتنقُّل بحثًا عن الماء، والكلأ للمواشي، لا تُبطِل أهليّة وأحقّيّة المرتحلين في الأرض. فضلًا عن أنّ الرعي والارتحال الدائميْن على الأرض، لا ينفيان الاستقرار فيها، لناحية دفن البدو لموتاهم في مقابر ظلّت قائمة وثابتة طوال تاريخهم الحديث. يدحض مؤلفو كتاب “الأراضي المُفرغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب”، السردية الإسرائيلية الاستعمارية، التـي تدعي بأن النقب كان أرضًا “موات” وقـد بنى المؤلفون وفق مؤشرات وأدلة وبراهين متعددة السردية الأصلانية لبدو النقب الفلسطينيين، القائمة على أن النقب كان يسكنها البدو، منذ قرون، ومارسوا عمليات الرعي والفلاحة في النقب، وأسسوا نمطًا معيشيًا متمايزًا لهم، ومن تلك البراهين على سبيل المثال لا الحصر: كشف تعداد السكان الشامل الذي أجراه العثمانيون في فلسطين عام 1596 خفايا تاريخ الزراعة في النقب، وبينت دراسة وولف- دايــر وكمال عبد الفتاح المفصلة للتعداد أن هناك زراعة للقمح والشعير والذرة الصفراء في النقب، إلى جانب وجود أكثر من 100 مزرعة يزرعها البدو. كما بينت روايات الرحالة والمستشرقين أن الزراعة كانت قائمة بالفعل وعلى وجه منظم وواسع النطاق في مساحات معتبرة في شمال النقب وشماله الغربي قبل عهد الحكم البريطاني. كذلك كشفت مجموعة مـن المستكشفين الصهاينة لمنطقة النقب، وجود قدر معتبر من الاستقرار والزراعة في النقب، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر، وبين مسح أجرته شركة تطوير أراضي فلسطين أن أبناء قبيلة التياها كانوا يزرعون الشعير والقمح والذرة والبطيخ في جنوب فلسطين. إلى جانب ذلك؛ كشف التنقيب الجيولوجي للباحثين في المصادر والدراسات الأكاديمية، وجود زراعة على نطاق ممتد في وادي بئر السبع وشمال النقب، وهذا السند الأكاديمي يضفي أهمية على الحجة التي يدافع عنها المؤلفون وأهالي النقب بشأن انتشار الزراعة والسكن وحقوق الملكية في أوساط البــدو. وكشفت دراسة عالم الجغرافيا دافيد غروسمان أن البدو الفلسطينيين في عهد الحكم العثماني كانت حياتهم تقوم على “اقتصاد مزدوج” يجمع ما بين تربية المواشي والزراعة. وبينت الخرائط التي تعود إلى حقبة الانتداب البريطاني وجود مساحات شاسعة كأراض مزروعة في وادي بئر السبع، وأراض مزروعة في بقاع محددة. وهــذه البينات تنفي عقيدة “النقب الميت” وفكرة الأرض المفرغة والأرض الموات التي تروج لها إسرائيل في ما يتعلق بالنقب، وقد أثبتت مؤشرات متعددة أن أراضي النقب وأجزاء منها كانت مزروعة في الحقبة العثمانية والبريطانية. ([18]) القانون كأداة للتهويد منذ الإعلان عن إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين وحتى الآن، ما انفك المشرع الصهيوني يسن القوانين ويضع الأنظمة التي تخول سلطاته المختلفة صلاحية “الاستيلاء” على ما تبقى من أرض بيد الفلسطينيين. فقد شكلت هذه القوانين الوسيلة الرئيسية للاستيلاء على مساحات هائلة من أراضي النقب، وتسجيلها باسم الكيان الصهيوني. ومن أهم هذه القوانين: قانون أملاك الغائبين لسنة 1950 ([19])، قانون أملاك الدولة لسنة 1951([20])، قانون استملاك الأراضي (تصديق الإجراءات والتعويضات) لسنة 1953 ([21])، قانون أساسي (أراضي إسرائيل) لسنة 1960 ([22])، قانون الاستيطان الزراعي (تقييدات على استعمال الأراضي الزراعية والمياه) لسنة 1967 ([23])، قانون تسوية الحقوق في الأراضي لسنة 1969 (التعديل الأخير) ([24])، قانون استملاك الأراضي في النقب (اتفاقية السلام مع مصر لسنة 1980)([25])، قانون طرد الغزاة 2003 ([26])، قانون دائرة أراضي “إسرائيل” تعديل رقم 1 /8/ 7 للعام 2009، توصيات “لجنة ترتيب استيطان البدو في النقب”، أو ما بات يُعرف بـ”خطة برافر” 2011. ([27]) لقد ساهمت هذه القوانين الاستعمارية في تجريد بدو النقب من حقوقهم وملكياتهم، وإلى تحويلهم إلى معتدين على أراضي الدولة، وما زالت مجموعة كبيرة من قراهم تتعرض للبطش كونها قرى “غير معترف بها” وفق القانون الإسرائيلي. لم يترُك القضاء الإسرائيليّ طريقًا إلا وذهب فيه من أجل نزع صفة علاقة بدو النقب بأرضهم، خصوصًا لدى أهالي القرى غير المعترَف بها. منها صور طوبوغرافيّة، تعود إلى الحرب العالميّة الأولى، والتي التقطت في أوقات لم يساعد فيها الجوّ والمناخ على إيضاح معالم وجود السكان البدو فيها. كما يتطرق صاحب كتاب “حدّ الصحراء، خطّ المواجهة”، إلى شكْل الادعاءات والحُجَج التي دارت داخل أروقة المحاكم الإسرائيليّة في السنوات الأخيرة، للحدّ الذي ذهبت فيه المحكمة إلى اعتماد نصوص كتابات الرّحّالة والمستشرقين الذين زاروا أو مرّوا بصحراء النقب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديدًا أولئك المستشرقين الذين نَظَروا إلى بدو النقب نظرةً استعلائيّة، معتبرين إيّاهم “متوحشين” لا ثباتَ لهم في الأرض، في محاولة أرادت بها الصهيونيّة عبر قضائها، نزْعَ الصّفة الأهليّة لبدو النقب على أراضيهم التي عرفتهم وعرفوها منذ مئات السنين. ([28]) إن أهمية النقب للكيان الصهيوني هي أهمية جغرافية سياسية وجيوسياسية، يحتاجها العدو الصهيوني لصناعة حزام أمني يوفر له الحماية، نظرًا لموقعها الاستراتيجي، لارتباطها حدوديًا بسيناء ومدينة غزة وشرق الأردن ووادي عربة وأم الرشراش، إضافة إلى أنها بوابة لأفريقيا وأوروبا عن طريق اليابسة. [1]() علي حبيب الله، إيال وايزمان: الصهيونيّة والتدخُّل البيئيّ في النقب… سياسات “التحريج والإنبات” (2/1)، إيال وايزمان: الصهيونيّة والتدخُّل البيئيّ في النقب… سياسات “التحريج والإنبات (2/1) (arab48.com) [2]() محمد قعدان، الاستيطان في النقب.. الدفاع عن “تل أبيب”، ترجمةً للمداخلة التي قدّمها دافيد بن غوريون خلال اجتماع اللجنة الأمنيّة الصهيونية، بتاريخ 3 شباط/ فبراير 1948. الاستيطان في النقب.. الدفاع عن «تل أبيب» – باب الواد (babelwad.com) [3]() مصطفي مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء الأول، القسم الأول، ط1، دار الهُدى ــ كفر قرع،1991، ص 122. [4]() مراقبة حقوق الإنسان، خارج حدود الخريطة: انتهاك حقوق الأرض والإسكان في قرى البدو الإسرائيلية غير المعترف بها، المجلد 20، رقم 5 (E)، مارس/ آذار 2008، ص (11- 12). https://www.hrw.org/sites/default/files/reports/iopt030 8ar_1.pdf [5]() د. عصام سخنيني، الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني، ط1، بيروت،المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص (140- 141). [6]() محمود الصباغ، فلسطين في الفضاء الصهيوني: مقالات مترجمة، ط1، دمشق، دال للنشر والتوزيع، 2022، ص 41. (إعادة تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل 1949- 1960) نقلاً: Maoz Azaryahu and Arnon Golan, (Re) naming the Landscape: The formation of the Hebrew map of Israel 1949- 1960, Journal of Historical, Geography, 27, 2 (2001) 178–195 [7]() ميرون بنفنستي، المشهد المقدس: طمس تاريخ الأرض المقدسة منذ 1948، ترجمة: د. سامي مسلم، ط1، رام الله، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، 2001، ص 35. [8]() المرجع نفسه، ص 36. [9]() المرجع السابق نفسه، ص 36. [10]() المرجع السابق نفسه، ص 36. [11]() بنفنستي، مرجع سبق ذكره، ص 38. [12]() محمد أمارة، اللغة العربية في إسرائيل: سياقات وتحديات، ط1، الناصرة، دراسات – المركز العربي للحقوق والسياسات، 2010، ص 135. [13]() الصباغ، مرجع سبق ذكره، ص 49. (إعادة تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل 1949- 1960) نقلاً: Maoz Azaryahu and Arnon Golan, (Re) naming the Landscape: The formation of the Hebrew map of Israel 1949- 1960, Journal of Historical, Geography, 27, 2 (2001) 178–195 [14]() د. عبد العظيم أحمد عبد العظيم، التخطيط اللغوي لتأصيل الهوية العبرية في فلسطين دراسة فيجغرافية اللغات«، المقدم لـ»مؤتمر الهوية واللغة في الوطن العربي، بحث مقدم إلى مؤتمر الهوية واللغة في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 1433هـ / 2012، ص 17. [15]() علي حبيب الله، إيال وايزمان، عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2)، إيال وايزمان… عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2 (arab48.com) [16]() محمد أمارة وألكساندر كيدار وأورن يفتحئيل، الأراضي المُفرغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب، ترجمة ياسين السيد، مدار ـ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله، 2020، ص (32- 33). [17]() شلومو سفريسكي وياعيل حسون، مواطنون غير مرئيين: سياسة الدولة تجاه البدو في النقب، مركز “أدفا” ـ معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل، أيلول/ سبتمبر 2005، http://www.adva.org [18]() أحمد عز الدين أسعد، الأراضي المُفرغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب، قراءة في كتاب، قضايا إسرائيلية، عدد 83، مدار ـ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله، 2020، ص 135. [19]() محمد عابدين، سياسة التهجير الداخلي الإسرائيلي وأثرها على بدو النقب (1994- 2014)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الأزهر، غزة، 2011، ص 82. [20]() إسماعيل عباس، عنصرية إسرائيل، مركز الزيتونة لمدراسات والاستشارات، بيروت، 2008، ص 54. [21]() مراقبة حقوق الإنسان، خارج حدود الخريطة: انتهاك حقوق الأرض والإسكان في قرى البدو الإسرائيلية غير المعترف بها، المجلد 20، رقم 5 (E)، مارس/ آذار 2008، ص 12. https://www.hrw.org/sites/default/files/reports/iopt030 8ar_1.pdf [22]() رامي عزارة، السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في إسرائيل (1993- 2000)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الأزهر، غزة، 2011، ص 84. [23]() المرجع نفسه، ص 84. [24]() مراقبة حقوق الإنسان، خارج حدود الخريطة: انتهاك حقوق الأرض والإسكان في قرى البدو الإسرائيلية غير المعترف بها، المجلد 20، رقم 5 (E)، مارس/ آذار 2008، ص 13. https://www.hrw.org/sites/default/files/reports/iopt030 8ar_1.pdf [25]() المرجع نفسه، ص 14. [26]() عزارة، مرجع سبق ذكره، ص 83. [27]() إمطانس شحادة، السياسة المنتهجة حيال المجتمع العربي في النقب، برنامج دراسات إسرائيل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية، 2013، ص 9. www.acri.org.il [28]() علي حبيب الله، إيال وايزمان، عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2)، إيال وايزمان… عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2…

كشفت تحقيقات استخدام جيش الاحتلال، الذكاء الاصطناعي، لقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين المدنيين، بصورة ممنهجة، من خلال اعتبارهم أهدافًا قابلة للاغتيال في حربه المستمرة على غزة. حُكي الكثير في الأسابيع الماضية عن نظام ذكاء اصطناعي يُطلق عليه اسم «لافندر»، استخدمه العدو لزيادة عدد الشهداء في الغارات الجوية، خاصة في الأسابيع الأولى من الحرب على قطاع غزة. لكن ما لم ينل نصيبه من الإشارة الإعلامية هو برنامج «أين أبي؟» الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، والمخصص عمليًا لإبادة عائلات المقاومين. في التفاصيل وفقًا لستة ضباط استخبارات إسرائيليين شاركوا في عملية صنع آلة القتل تلك، صُمّم «لافندر» للتعرّف بسرعة على جميع «النشطاء المُشتبه بهم في الأجنحة العسكرية لحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين» واعتبارهم «أهدافًا محتملة للقصف»، حتى ذوي الرتب المنخفضة في المقاومة. وحلّل الذكاء الاصطناعي بيانات ضخمة عن سكّان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة لمنح كل شخص تصنيفًا يشير إلى مدى «احتمالية كونه متشددًا». من خلال آلية العمل هذه، وضع «لافندر» علامة على أكثر من 37 ألف فلسطيني تحت خانة «مسلحين مشتبه بهم» لإضافتهم إلى «قوائم القتل» التي تعني أنهم أصبحوا عرضة لاغتيالهم بغارات جوية. وذلك كلّه وفق تحقيق نشرته مجلة «972» العبرية في الثالث من أبريل الحالي. 36 ألفا ينتظرون في المراحل الأولى من الحرب، أعطى جيش الاحتلال تفويضاً واسعاً للضباط للعمل وفقًا لقوائم القتل التي أنشأها نظام «لافندر»، من دون التحقّق من اختيارات الآلة للأهداف أو فحص البيانات الاستخباراتية الأولية. وقال أحد الضباط إنّه لم يكن هناك «أي إشراف بشري تقريبًا» على عمل آلة الموت، فقد تعاملوا مع الأهداف بشكل أساسي على أنها كلّها مشروعة بناءً على ما تقوله الآلة فقط، من دون الحاجة إلى فحص المعلومات الاستخبارية من قبل البشر. وكشف أحد كبار الضباط: «في البداية، فحصنا الآلة للتأكّد من عدم وجود تشويش. بعد ذلك اعتمدنا على النظام الآلي، وتحقّقنا فقط من أنّ الهدف المُراد قصفه كان رجلًا. ذلك كان كافيًا» لتنفيذ العملية، مضيفًا أنّه «لم يكن لدي أي قيمة أضيفها كإنسان على عمل الآلة، باستثناء أنني حصلت على ختم الموافقة (على القتل)». وكشف مصدر آخر لـ«972» أنه لم يتم إجراء أي تحقيق حقيقي بالجرائم قبل تنفيذها: «أنت لا تريد أن تضيّع قنابل باهظة الثمن على أشخاص غير مهمّين. أنت تنتقل فورًا إلى الهدف التالي. وبسبب آلة الذكاء الاصطناعي، فإنّ الأهداف لا تنتهي أبدًا. لديك 36 ألف شخص آخر بانتظارك». هكذا تحدثت مصادر المجلة العبرية عن شهداء غزة. أرقام تنتظر دورها لتنضم إلى قافلة الشهداء. «أين أبي؟» استخدم الصهاينة نظاما آليًا آخر يُطلق عليه تسمية «أين أبي؟»، يُستخدم لتحديد الوقت الذي دخل فيه الأفراد المستهدفون منازلهم، وبعد نحو 20 ثانية فقط، يُقصف «الهدف» مع عائلته، من هنا تأتي تسمية النظام. الأمور ليست عبثية لدى الصهاينة. قصفت قوات الاحتلال هؤلاء الأفراد بصورة ممنهجة، أثناء وجودهم في منازلهم ليلًا عندما كانت عائلاتهم بأكملها موجودة أيضًا، وليس أثناء القتال. وذكرت المصادر لمجلة «972» أن هذا النهج اتُبع لأنّه من الناحية الاستخباراتية، كان من الأسهل تحديد وتتبّع الأهداف في مساكنهم الخاصة. وبدء القصف بمجرّد دخولهم منازل عائلاتهم. وفي الأسابيع الستة الأولى فقط، قُتل أكثر من 15 ألف فلسطيني من 1,340 عائلة بهذه الطريقة (وفقًا لبيانات الأمم المتحدة)، أي ما يقرب من نصف إجمالي عدد شهداء غزة حتى الآن. سياسات إبادة غير مسبوقة اعتمدها جيش الاحتلال مثل قتل ما يصل إلى 20 مدنيًا مقابل كل مقاوم يتم قصفه في منزله. في غارة جوية واحدة، استشهد أكثر من 100 مدني، بذريعة محاولة اغتيال أحد قادة المقاومة، بحسب ما كشفت المجلة الإسرائيلية. محاولة التهرب من المسؤولية محاولة كيان الاحتلال التلطّي خلف الذكاء الاصطناعي لتبرير المجازر ليست جديدة، إذ إنّه في 30 نوفمبر الماضي، كشفت المجلة نفسها، «972»، بالتعاون مع موقع «الاتصال المحلي»، كيف ساهم استخدام أنظمة استهداف عبر الذكاء الاصطناعي، في إقامة «مصنع اغتيالات جماعية» أدّى إلى مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر. وكشف التحقيق في حينه عن نشر نظام استهداف يعمل بالذكاء الاصطناعي يسمّى «حاسبورا» أنشأ قوائم اغتيال تضمّ عشرات الآلاف من الأهداف المحتملة وبسرعة، بما في ذلك العديد من منازل المدنيين. وقال مسؤولو المخابرات للمجلة إنّ هذا مكّن الجيش الإسرائيلي من قصف المباني السكنية بشكل منهجي لقتل حتى عناصر حماس ذوي الرتب المنخفضة إلى جانب عائلاتهم على نطاق واسع. يحاول كيان الاحتلال الحفاظ على ماء وجهه أمام العالم، وتدعي «إسرائيل» أنّها تصرفت وفقًا للقانون الدولي، لكن نتائج التحقيق توضح كيف مكّن الذكاء الاصطناعي قوات الاحتلال من الالتفاف على المجازر بحقّ المدنيين. وبدلًا من مساءلة الكيان نفسه والقيّمين عليه، يرمي كرة المسؤولية على آلة قتل صنعها هو. الكيان هو من أباد عائلات بأكملها من خلال الضغط على أزرار الإطلاق، وليس «آلة» أو نظام…